البودكاست والإعلام التقليدي

هناك الكثير من البودكاست حول العالم وانتشر بشكل واسع وبرز كتجسيد جديد للإعلام الثوري الذي يتحدى المعايير والعراقيل التقليدية
والذي ينقل الصحافة إلى عصر جديد في هذا المجال.
حيث أنه تجاوزت هذه الوسيلة الإعلاميّة هويَّتها الأوليّة باعتبارها شكلاً من أشكال الترفيه، ونمت لتصبح منصّة قويّة ومُتعددة
الاستخدامات ذات آثار بعيدة المدى.
وإذا نظرنا إلى أرقام الإحصائيات فنجد أن عدد المستمعين للبودكاست قد ارتفع بنسبة 9.4% بين عامي 2021 و 2022، ومن المتوقع
أن يتجاوز عددهم 500 مليون مستمع عالميًا بحلول عام 2025، مما يُمثّل حوالي 23.5% من مستخدمي الإنترنت.
نتعمّق في هذا المقال في التأثير مُتعدِّد الأوجه للبودكاست على جوانب مُختلفة من المشهد الإعلامي، وتستكشف تأثيرها على وسائل
الإعلام التقليديّة، وصناعة المُحتوى، والصحافة، وإشراك الجمهور، فهيا بنا.
التغيير الكبير في العادات الخاصة في الجمهور المستمع
تُواجه اليوم وسائل الإعلام التقليديّة التي كانت تهيمن عليها الإذاعة والتلفزيون ذات يوم تنافساً هائلاً مع تحوُّل الجماهير بشكل متزايد
إلى المحتوى حسب الطلب، أي أنَّهم عندما يريدون أن يسمعوا عن موضوعٍ مُعيّن، يقومون بالبحث عنه على الإنترنت للاستماع إليه دون
غيره.
وهذا التطوُّر ليس مجرد اتجاه، بل إنّه يعكس تغييراً أساسياً في الطريقة التي يُفضِّل بها الناس استهلاك المعلومات والترفيه بحسب
مايرغبون وهو تماماً ماقدمه البودكاست بكل سهولة وسلاسة ويسر لجمهور المستمعين ، مما سمح للمُستمعين بتنظيم جداول البرامج
الخاصَّة بهم.
عكس الوسائط التقليديَّة التي تتبع جدول بث ثابت، تُوفِّر ملفات البودكاست المرونة التي يُمكن الوصول إليها في أي وقت وفي أي مكان
وهذا الأمر يلبي أنماط الحياة المُزدحمة لجمهور اليوم، مما يتيح لهم اختيار متى وأين يستهلكون المحتوى.
أضف إلى ذلك أنّ البودكاست قد نجح بلا شك في تحطيم الحواجز الجغرافيّة والزمنيّة، مما يُوفِر مُستوى عالٍ من إمكانيَّة الوصول غالباً
ما تكافح وسائل الإعلام التقليديّة للوصول إليه. تُتيح سهولة بث الحلقات أو تنزيلها للمستمعين عبر الإنترنت إمكانيّة إنشاء قائمة تشغيل
مُخصَّصة لبرامجهم المُفضَّلة. وقد ساهم هذا التحوُّل نحو المحتوى المُخصَّص الذي يسهُل الوصول إليه بشكلٍ كبير في زيادة شعبية
البودكاست.
وفي حين أنّ وسائل أخرى مثل الراديو لا يزال تحتل مكاناً في قلوب الكثير من الناس، فإنَّ القدرة على اختيار موضوعات مُحدَّدة
والاستمتاع بالمحتوى دون انقطاع قد جذبت جزءاً كبيراً من جمهور الراديو إلى البودكاست.
وتماشياً مع هذا الأمر فقد تكيَّفت بعض محطَّات الراديو من خلال دمج البودكاست في برامجها، وهو الأمر الذي أتاح لها الوصول إلى
الجماهير على جبهات مُتعددة، مع إدراك أنّ الفجوة بين الوسائط التقليديّة ووسائط البودكاست أصبحت واضحة بشكلٍ مُتزايد.

ديمقراطيَّة صناعة المُحتوى
تمتد ثورة البودكاست إلى ما هو أبعد من مُجرَّد التحوُّل في عادات استهلاك الجماهير للمحتوى الإعلامي، بل إنَّه يُمثِّل الحريّة المُطلقة
لإنشاء المحتوى. تقليدياً، كان الإنتاج الإعلامي مجالاً تُهيمن عليه كيانات راسخة تتمتَّع بموارد كبيرة وبالتالي تفرض آراءها عبر
منصّاتها الإعلاميّة. ومع ذلك، فقد نجحت برامج البودكاست في تفكيك هذه الحواجز، وتمكين الأفراد والمُجتمعات المتخصِّصة من أن
يصبحوا مبدعين ومساهمين في المشهد الإعلامي العالمي.
أصبح البودكاست وسيلةً قويّةً لأي شخص لديه رسالة أو قصّة لمُشاركتها. من المبدعين المستقلين إلى المتحمسين لمجالات مُحدَّدة، يُوفِّر
البث الصوتي منصَّة للأصوات التي رُبما كافحت للعثور على مساحة داخل حدود الوسائط التقليدية، وهذا بدوره يسمح بظهور نسيج غني
من وجهات النظر.
على عكس تكاليف الإنتاج المُرتفعة والبنية التكنولوجيّة المُعقَّدة المُرتبطة بوسائل الإعلام التقليديّة، فإنَّ البودكاست أبسط من ذلك بكثير.
غالباً ما يكون الميكروفون والاتِّصال بالإنترنت هو كل ما تحتاجه لبدء إنتاج المحتوى. وقد أدَّت هذه السهولة في إنتاج البودكاست إلى
انفجار الأصوات المُتنوِّعة، التي تغطي مجموعة من المواضيع التي ربما لم تحظى باهتمام وسائل الإعلام الرئيسيّة.
كما نعرف جميعاً، تميل الوسائط التقليديّة إلى تلبية احتياجات شريحة جماهيريّة واسعة في وقتٍ واحد، لكنّ البودكاست يزدهر بالمُحتوى
المُتخصِّص والمُجتمعات المتحمسة المحيطة به. يمكن لصانعي البودكاست إنشاء محتوى يتردد صداه بعُمق مع مجموعات مُحدَّدة، مما
يعزز الشعور بالانتماء لدى هذه المجموعات، وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه في كثيرٍ من الأحيان في وسائل الإعلام التقليديّة.
وبينما يجد الأفراد والمُجتمعات صوتهم مسموعاً من خلال البودكاست، تضطر وسائل الإعلام التقليديّة إلى إعادة تقييم استراتيجيات
المُحتوى الخاصة بها. لقد أجبرت قدرة المبدعين المُستقلين على جذب جماهير مُخصَّصة وسائل الإعلام القائمة على إدراك تأثير هذا
الشكل الديمقراطي لإنشاء المُحتوى.
تأثير البودكاست على الراديو
لقد أثر التحوُّل الكبير من عمليَّات البث المُجدولة إلى المحتوى حسب الطلب تحديَّات كبيرة لصناع البرامج على الراديو ، ومع اكتساب
البودكاست جماهيرية كبيرة ، تشهد صناعة الراديو حالياً تحولاً كبيراً لتبقى في المنافسة مع البودكاست في هذا المشهد المُتطوِّر.
تُعد أحد التأثيرات الأكثر وضوحاً للبودكاست على الراديو التقليدي هو سحب شريحة كبيرة من الجماهير. وفي حين أنَّ الراديو لا يزال
يحظى بنسبة كبيرة من المُستمعين، فقد استحوذ البودكاست على شريحة مُتزايدة من السوق، حيث أدّت طبيعة البودكاست التي تسمح
للمُستمعين باختيار محتوى يناسب تفضيلاتهم إلى تحوُّل كبير في كيفيّة تخصيص الأفراد لوقت الاستماع الخاص بهم.
لكي تظَل قادرة على المُنافسة، قامت محطات الراديو التقليدية بتكييف اتِّجاهات برامجها لتتوافق مع تفضيلات الجماهير الحديثة. إدراكاً
لشعبيّة المُحتوى حسب الطلب، تقوم العديد من محطات الراديو الآن بدمج ملفات البودكاست في برامجها الإذاعية، مما يخلق نهجاً
مختلطاً يجمع بين الطبيعة المجدولة للراديو ومرونة حلقات البودكاست.
تطوَّرت الطريقة التي يتفاعل بها المُستمعون مع المحتوى مع مرور الوقت ، ولعب البودكاست دوراً حاسماً في تشكيل هذه السلوكيّات
الجديدة حيث أصبحت القدرة على اختيار ما تريد الاستماع إليه ومتى وإلى متى هي القاعدة.

بدأت بعض المحطَّات الإذاعيَّة بتبني البودكاست بدلاً من اعتباره تهديداً لها على شكل شراكات مع صانعي البودكاست المشهورين، ودمج
البودكاست في مجموعة البرامج الخاصّة بهم، أو حتى إنشاء محتوى بودكاست أصلي، مما يعكس مدى الاعتراف بالمشهد المُتغيِّر
والرغبة في التكيُّف معه.
البودكاست والصحافة
أعاد البودكاست طريقة نشر الأخبار والقصص واستهلاكها ومُناقشتها. ويشمل تأثير البودكاست على الصحافة إلى ما هو أبعد من وسائل
الإعلام التقليديّة، حيث يُوفِّر منصّة فريدة للتحليل المُتعمِّق، والتقارير الاستقصائيّة، والمُناقشات الدقيقة، وفي بعض الحالات يتحدى
البودكاست تقاليد وسائل الإعلام التقليديّة.
يُوفِر البودكاست منصّة للتعمُّق في القضايا والقصص المُعقّدة بطريقة قد تكون غير عمليّة ضمن حدود الصحافة التقليديّة، حيث يُتيح
التحليل المُتعمق والتعليقات المُقدّمة من خلال البودكاست استكشافاً دقيقاً للموضوعات، مما يُعزز فهماً أعمق بين الجماهير المتعطشة
للسياق والمضمون. بمعنى أخر، لا يوجد قيود حول ما يُمكن قوله عن أي خبر وهو الأمر الذي قد لا يتواجد في الصحافة التقليديّة
المُوجّهة.
بالإضافة إلى ذلك، تسمح طبيعة البودكاست القائمة على تقديم المُحتوى حسب الطلب بسرد القصص الطويلة، وهو ترف غالباً ما يكون
غير متواجد في وسائل الإعلام التقليديّة. بفضل البودكاست، يُمكن كشف الروايات المعقدة، وتوفير رؤية شاملة للأحداث والقضايا
والشخصيّات، وهو الأمر الذي يلقى صدى لدى الجماهير التي تبحث عن أكثر من مُجرَّد عناوين الأخبار.
في الوقت الحالي، يعمل البودكاست أيضاً كمنصَّة قويّة للصحافة الاستقصائيّة، مما يسمح للصحفيين بتخصيص الوقت والموارد اللازمة
للكشف عن القصص غير المرويّة. يستخدم الصحفيون المُستقلون والمؤسسات الإعلاميّة البودكاست لتسليط الضوء على القضايا التي قد
تحظى باهتمام أقل في وسائل الإعلام الرئيسية، مما يساهم في خلق مشهد إخباري أكثر شمولاً وتنوُّعاً. كما تعمل ملفات البودكاست على
تسهيل المُحادثات مع الخبراء والأفراد المُشاركين بشكلٍ مُباشر، حيث يُوفِّر هذا الحوار للمُستمعين رؤى ووجهات نظر تتجاوز اللقطات
الصوتيّة أو المُقابلات المكتوبة، مما يعزز انتقال المعلومات بشكلٍ أكثر حريّة وشفافيّة.
وفي حين أنَّ البودكاست يُقدِّم فوائد عديدة للصحافة، إلا أنَّه يطرح أيضاً بعض التحديّات والاعتبارات الأخلاقيّة. وقد يثير الافتقار إلى
الرقابة التحريريّة في بعض الحالات مخاوفاً بشأن دقّة المعلومات والمُساءلة في حالة تقديم معلومات مُضللة. لذلك، يجب على الصحفيين
الذين يتنقلون إلى البودكاست تحقيق التوازن بين الطبيعة الحرّة لهذه الوسيلة الإعلاميّة والمسؤولية الصحفيّة لتوفير معلومات دقيقة
وموثوقة.

الخاتمة
● لا شك أنّ البودكاست أصبح له تأثيرٌ كبير على الصحافة ووسائل الإعلام التقليديّة، حيث أحدثت هذه الوسيلة الإعلاميّة
الصوتيّة ثورةً في الطريقة التي يستهلك بها الجمهور المعلومات والترفيه

● أصبح البودكاست يُشكِّل تحدياً لهيمنة وسائل الإعلام التقليديّة وأصبح من السهل الوصول إلى ملفات البودكاست للمُستمعين
والتفاعل مع المحتوى وفقاً لشروطهم الخاصّة التي يقررونها.
● استمرار نمو شعبية البودكاست يزيد من احتمالية أن نشاهد استخدامات مبتكرة أكثرلهذه التكنولوجيا في الإعلام والصحافة.
● من وجهة نظرنا يجب على وسائل الإعلام التقليديّة أن تتكيّف وتتبنى البودكاست كوسيلة إعلاميّة واعدة وإلا فلن يكون لها
مكان في الإعلام مستقبلاً